صلوات

صلاة شعرية للقدّيس يوسف

الدعوة:

لكي أتمكّن مِنَ التّكلّمِ خلَدتُ إلى الصلاة، لكنني لم أسمع صوت الريح يضربُ شراعَ مركبي، ولا هطولَ المطرِ ولا مساحاتِ قلبيَ الصمَّاء. فلا تتأخرْ أبداً، لأنَّ في سنيِّ عمري الناضجة، أشعرُ بالحاجةِ إلى إرشاداتِكَ. آهٍ! لماذا تَختبيءُ هكذا؟ لماذا تضعُ بيني وبينكَ أجيالاً من الظلالِ والصمت؟ أنا مستعدٌ لأشعرَ بيدك في يدي، لكنّي أعانقُ الفراغَ بغتةً، فما كنتُ أعتقدُ أنَّ الوصولَ إلى ذلك صعبٌ حتى هذا الحدّ. أنتَ مُسَمَّرٌ في أفكاري. وعليَّ أن اُبْحِرَ في البحثِ عن فَقرِكَ كالباحثِ عن زنبقةٍ في مخاطرِ المفترقات. فتحنَّن عليَّ يا أبي، بعيداً كنتُ أم قريباً، لأنكَ الساهرُ وحدَكَ على حياتي. لم ترفُضْ لي شيئًا مما طلبتُهُ منك. وقلبي ينفطَّر من التقوى حينَ أفكِّرُ أنَّكَ، في كلِّ ساعاتِ المرارةِ هذه، أنتَ هنا. اُحِبُّ حتى صورتَكَ البسيطةِ، وتمثالَك المزخرَفَ بالألوانِ المُثْبَتةِ على المذبحِ، في قُرى الأريافِ الفقيرةِ، حاملاً الزاويةَ الثُلاثيّةَ الأضلاعِ للعملِ؛ أو عصاً أو مسطرةَ المقاسَاتِ في يدِكَ.وأنتَ ترفِضُ كلَّ ما يُزعج من ثرثراتِ مسيحِيٍّ فاترٍ، أو كلماتِ كُفرٍ تَخرُجُ منْ شفاهِ جاحدٍ. فاقبلْ مني ما يُعَوِّض عنهم. يَهُزُّني تواضُعُكَ كالريحِ في أعماقِ البحار. فكلّمني بغيرِ ذاك الصمتِ الغامضِ. أَظْهِرْ لي ذاتَكَ بهذا العملِ، وليس بهيئةِ الطينِ والورق لأنّي أرجو أن تحيا حقًا في قلبي وفي ريشةِ قلمي. وإلا سأغرقُ في الخَيبةِ. أعطِني نِعمةَ أن أَلتقيَكَ وجهًا إلى وجهٍ.

أنا الأخيرُ بين الناس. فلا شيء فيَّ يُشبهُكَ. من أجلِ ذلك اُحِبّكَ. أتوسّلُ إليكَ أن تُرسِلَ لي ملاكَكَ. فكبيرةٌ هي ظُلُماتي وكثيفٌ الخَزَفُ في داخلي، فإن لن يَنفُخ ملاكُكَ فيه فلا يُمكنني أن أراكَ ولا أن أسمعَكَ، لأنَّ أعذبتي كبيرةٌ من أجلِ إكَرامِكَ، أنا في العذابِ ولا قدرةَ لي. لقد مزَّقتُ أوراقي مراتِ عدةِ كطفلٍ خائبٍ يَنهَشُ باقَةَ وردٍ. لكني لستُ أنا من يَرغبُ بذلِك. أنا غيرُ قادرٍ والعارُ يجتاحُني. إني أتهاوى يَمنةً ويَسرةً، كمَنْ بمسيرةِ حجٍّ، جائعٌ عطشانٌ يَشْحَذُ الصلواتِ من كهنةِ الأريافِ، ومن الراهباتِ البسيطات، ومن أُمراءِ الكنيسةِ، لينالَ عبقريَّةً فَقَدَها. كنتُ أقبَعُ من خَجَلي الكبير أيامًا عدَّة!  في إنتظارِ نَفخَةٍ من الملاك. ولم يأتِ أبدًا. وبحثْتُ عنكَ يا أبانا، في هذه البلادِ الشرقية، دونَ جدوى، حيثُ تَكثُرُ الأريجُ والخضرَةُ، هناك حيث عشتَ أنتَ زَمَنًا! لكنْ لم يوافقُكَ ما رسمتُهُ من لوحاتي العديدة. فبقدرِ ما حاولتُ أن أرسمَها، أزهارًا وأعشابًا ذَبُلتْ تحتَ الشمسِ أمام متانةِ الإنجيل. آه! عليَّ أن أنْحَدِرَ الى أعماقِ قلبي.

أنت، يا مَنْ استوطنَ أرضَ الهجرةِ في مِصرَ مع الوحيدَين يسوع ومريم: أخذتَهما إلى خاصتِكَ، وهما فَرَحُكَ الصامتُ، وكنتَ حاضراً لإنهما سيضعانِك في كلِّ بقاعِ الأرض. يا يوسُف، اقتربْ من كلِّ الذين يعيشونَ في العُزلةَ ويَلُفُّ الفشلُ قلوبَهم. تبنّاهم! واقبلهُم في قلبِ عائلتِك المقدَّسة. فالحياةُ قاسيةٌ للمتروك، ليس له أمٌّ، ولا زوجةٌ ولا أولاد. وإزعاجُ الآخرين بآلامِنا مُذلٌ جدًا. فأعِدْ الحياة إلى القابعين في صحرائهم، تلفُّهُم الأنانيّة. وحين يُطبقُ ليلُ العمرِ على صدورِهم، وتلتَهبُ جِباهُهُم، وكالكابوسِ يُطوِّقهُمُ الإستسلامُ كحَبْلِ المنشقةِ أو السلاحِ ليَقتُلَهم، أرسِلْ إليهم، في هذا الجفافِ، ذاكَ النسيمُ العليلُ الذي أثلجَ الحجابَ المقدّس الذي يَحمي خطـِّيبَتِكَ.

يا أيُّها القدّيس يوسُف كمْ مِن الوثنيينَ باركوا هذا الحضور وهم لا يمتلِكُون سوى بعضِ المأكلِ لحاجاتِهم؛ وقد إستقوا براحاتِ أيديهم مياهاً ليشربوا.

وأنا كالفلاسفةِ القدماءِ أكتبُ عظمةَ الفقرِ على لوحٍ مِنْ ذهبٍ، وأرفعُ التعظيمَ لأمرٍ لا أحبّهُ، واُمجِّد ما لا أقبله إلاّ مُرغمًا، بينما اختبأ أبناءُ الأمراءِ وبناتُهم في غَياهِبِ الدياميس، واقتاتوا من الخبز اليابسِ، كرمى لحُبِّ ابنِكَ الإلهي الذي عاشَ معكَ فقيراً من الناصرة.

آه! أنا لم أستقبلُكَ في نفسي بالمحبَّةِ اللائقةِ بكَ، يا أبا المعوزين! فلن أتمكَّنَ إلاّ من الجلوس، مُتمتمًا على مائدةِ العاملِ الذي يَحرِمُ نفسَهُ، والنومِ على سريرٍ متخلِّعٍ كاناسٍ يحجّون في هذه الدنيا.

فطوبى لتلاميذِكَ الحقيقيينَ الذينَ في بيتهم المتواضِعُ يَحرِمون أنفسَهم عن مأكلِهم ليقدِّموه لأطفالِهم مسرورين! فالى هؤلاءِ الذين لا يَطلبون أمراً آخرَ، قد اُعِدَّ الملكوت. إن كانتِ القصائدُ هي التفتيشُ عنِ السماء، وإن كان الموتُ هو اكتشافٌ لها، فالوصولُ هو أجملٌ ما ينالُهُ الشاعرُ.

فما أن يُغمضَ أحدُ أبنائِه عينيه، يرى كلَّ ما لم تَرَهُ عينٌ، من ذاك البهاء الذي ما عرفه أحدٌ، إلاّ بالومضات القليلة والإيقاع الشحيح.

فيا يوسُف تذكَّرْ خروجَكَ من مِصرَ حين انتَهَتِ الإضطهاداتُ، وارتفعَ قوسُ القُزَحِ معَ إناشيدِ البساتينِ الخضراء.

لكن هذه الروائع ليست بشيء مقارنةً مع تلك التي تأملتَها حين استراحَتْ يدُ الطفلِ الإلهي كزنبقة على جفنيكَ لتغمض عينيك.

باستطاعة الظِلِّ أن يملك الآن داخل غُرفتي، ففي الخارج تًسطعُ الأنوار.

أنت شاهدٌ لي، أيها القدِّيسُ يوسُف، بأنَّ الأفراحَ الحقيقية التي أعيشها هي حين أكون معك في الظلِّ. فحين تَغيبُ العظمةُ، فكم جميلٌ أن نُحِبَّ عملنا وأنْ نُفاخرَ بأننا نشتغلُ على طاولتك، وعائلتُنا تتمتَّعُ برؤيةِ أعمالِنا، أقلَّه بعينِ الإيمانِ المتيقِّظةِ. فكم عاينَ يسوعُ ومريمُ أناساً يستخِفّون بمُقدَّراتك، ويَبسِطون أعمالَهم الفنيّةَ التقنيّة، في وجهِ مُحترفِك المتواضعِ والشريفِ، لكنَّ بيلاطس لم يصنع مِغسلته عندك، ولا هيرودس سريره، ولا القيصر كرسيَّ عرشِهِ، لقد صنعوها في المؤسَّساتِ الكبرى لينالوا مجدَهم.

أمّا أنت أيّها الشفيعُ المحبوبُ، ففي قلبِ العُمَّال ذوي الإرادةِ الحسنةِ، والذين لا يبحثون عن عظمةِ أقوياءِ هذا الدهر، قد أودعتَ البذورَ المخفيَّة واسمُها المَحبَّة والتي لا تُباعُ ولا تُشتَرى. هذه البذور، اجعلها تُثمرُ ثماراً كثيرةً في داخلي، وتنشرُ عطرَها، لكيما يستطيعُ فَمي أن يُرتِّل فرحي. هبني هذا الظِلَّ قبل أن يموتَ حبّي.

فرنسيس جيمس