صلوات

صلاة للقديس يوسُف الملتحفُ بالصمت

ظِلُّ الآبِ!

هذا الذي انحدرَ عليه ظِلُّ الآبِ كثيفًا وعميقًا، القدّيسُ يوسُف، رَجُلُ الصمتِ والذي بالكاد تفوَّهَ بكلمة! فالإنجيلُ لا يكتبُ عنه إلاّ كلماتٍ معدودةٍ: “كان رجلاً بارًا”. والإنجيلُ في كلامِهِ المُقتضب، قليلُ الكلامِ أكثرَ فأكثرَ حين يَختصُّ الأمرُ بالقدّيسِ يوسُف.

وكَأنَّ هذا الرجل يلتحفُ الصمتَ ويَستلهمُهُ. فصمتُ القدّيسِ يوسُف يَجلبُ السكونَ من حولهِ. والصمتُ يُكَوِّنُ تسبيحاتِه وعبقريتَه وكلَّ مناخِهِ. وأينما تواجدَ سادَ الصمتُ. فحين يحومُ النسرُ يفّهم المسافرُ العطشانُ بأنَّ هناك مصدر مياه حيث يُخيّم ظِلُّ النَّسرِ في الصحراء، فيحفر الحجّاج وتنبع المياه. هكذا فالنسر تكلم لغته، رفرف بجناحيه. فالأمور الجميلة أمست أمورًا نافعةً، والرجل العطشان الذي يفهم لغةَ النَّسرِ، ينبشُ في الرِّمالِ فيجدُ المياه.

فمهما كان من هذه الرِّواية الرائعةِ ومن حقيقتِها الطبيعية، التي لا أستطيع تأكيدها، فهي خصبةٌ بالرموزِ الكثيرةِ الإفادة.

فحين يخيِّمُ ظلُّ القدّيسِ يوسُف في مكانٍ ما، فالصمتُ يسودُ هناك. يجب إذاً الحفرُ في الرِّمالِ، ومعناها الرمزي يُمثّلُ الطبيعةَ الإنسانيّة؛ يجب الحفر في الرِّمال كي ترى المياه تتفجَّرُ. فالمياه هي، إذا شئت، ذلك الصمتُ العميقُ حيث تُوجَدُ فيه الكلمات، إنه الصَّمتُ المُحيي، المنشِّطُ، المُهديء، المُروي، إنَّه الصَّمتُ الجوهري: فهناك، حيث وقعَ ظِلُّ القدّيس يوسُف، يتفجّرُ جوهرُ الصَّمت، عميقٌ وصافٍ، نابعٌ من جوهرِ الطبيعةِ الإنسانية العميقة.

لا نجدُ له كلمةً واحدةً قالها في الإنجيل. فالإله مردوخ الذي جعل استير تُزهر بسبب ظِلّهِ، هو واحدٌ ممن سبقوه. وابراهيم أبو إسحاق يُمثِّلُ أيضًا الأبَ المفترض ليسوع. ويوسُف، إبن يعقوب، كان صورةً واضحةً عنّه. فيوسُف الأول حفِظَ في مِصرَ الخبزَ الطبيعي. ويوسُف الثاني حفظَ في مِصرَ الخبزَ الفائقَ الطبيعة. كلاهما كانا رَجُلا الأسرار: وكلاهما اكتشفا في الحلم السر الخفيّ. فكِلاهما اتضحتْ له المعلوماتِ أثناءَ الحُلمِ. وكلاهما عرف الأمور المخفية. تطلعا داخل الظُّلماتِ فرأتْ عيناهما من خلال العتمة.

مُسافرا الليالي اكتشفا طريقَهما من خلالِ أسرارِ الظلام. رأى يوسُف الأول الشمسَ والقمرَ يسجدانِ أمامَهُ. ويوسُف الثاني أمرَ مريمَ ويسوعَ فأطاعاه.

فبأيِّ عُمقٍ داخليٍّ على هذا الرجل أن يسكنُ إذ يشعرُ بأنَّ يسوعَ ومريمَ يُطيعانِهِ. هذا الرجلُ الذي تآلفَ مع تلك الأسرارِ، والذي كشفَ له الصَّمتُ عُمقَ السرّ الذي يحرِسُه. فحين كان ينحتُ الأخشابَ، وحين كان يرى الطفلَ الإلهي يعملُ تحتَ أُمرتِه ومشاعره محفورة في هذا الوضعِ اللامعقولِ، يستسلمُ للصمتِ الذي يحفرُ في داخله أكثر فأكثر؛ وفي عمقِ الأعماقِ حيثُ يقطنُ مع عملِه، كان عنده القوَّة لأن لا يقولَ للناسِ: ها إنَّ ابنَ الله هنا.

صمتُهُ يُشبهُ الإشادةَ المرفوعَةَ إلى ما لا يُعَبَّر عنه: إنّه انحدارُ كلمةِ الله صوبَ الذي لا تُسبَرُ أغوارُهُ، صوبَ اللامحدود. فالإنجيل الذي يقولُ كلماتٍ قليلةٍ، لديهِ كلَّ الأجيال لتفسِّر ذلك؛ نَعم أقولُ إنَّ الأجيالَ كلَّها ستفَسِّرُ ذلك. فالأجيال ستنتفضُ كلماتها، وسيتفجرُ من الحجارةِ الشرارةَ الحَيَّةَ. فالأجيالُ موكلٌ إليها بأن تَحمِلَ الى النورِ كلَّ الأمورِ الخفيَّة. كانَ القدِّيسُ يوسُف مجهولاً لزمانٍ طويل. لكن إليكم أمرًا غريبَا، فكلُّ جيلٍ يَحملُ وجهينِ: وجهٌ مسيحي ووجهٌ لا مسيحيّ؛  فالوجهُ المسيحيُّ يتناقضُ مع الوجهِ المعاكس له، بتناقضٍ مباشرٍ وصارخٍ. فالجيل الثامن عشر هو جيل السُّخريَة والعبثِ والخفَةِ والتَّرَفِ، الذي حكم خلاله بنوا جوزف لابرو… أما الجيل التاسع عشر فكان قبل كل شيء، بكل ما للكلمة من معنى، عصر كلمة الله. فإن كان انتشارُها جيدًا أم لا فلا شكَّ بأنَّها ملأتْ عصرنا. ومن الأمور التي تطبعنا، هي الصخب. فلا ضجيجَ مثل إنسانِنا الحديث: يُحبُّ القرقعةَ ويرغبُ بأن يزرعَها من حولِه، ويريدُ أيضًا أن يعيشَها كلُّ الناسِ المحيطينَ بهِ. فالضجيجُ هو شغفُهُ وحياتُه ومناخُهُ؛ والإعلاناتُ تأخذُ من ذاتِه الفَ شغفٍ وشغف. يموتُ مُختنقًا تحتَ سيطرةِ الضجيج، إنْ لم يستمِدّ حياتَه منه ويتغذى من نورِه كي يغذِّي العنفَ أكثرَ فأكثر. فالقرن التاسع عشر يتكَّلمُ، يَبكي، يَصرخُ، يتباهى، ويقطعُ الأمل.

عصرٌ يفضحُ كلَّ شيء ويكرَهُ الإعترافَ الصامتَ. يُتفجِّرُ في كلِّ لحظةٍ فضائحَ علانيَّةً ويَصيحُ، وُيبالغُ ويُهمدرُ. هذا هو، عصر الدين، الذي سيرى مجدَ القديس يوسُف، مرتفعاً وواسعاً، في سماء الكنيسة.

فالقديس يوسُف قد اختير بشكلٍ رسميِّ، شفيعًا للكنيسة رغم ضجيج العاصفة. هو الآن معروفٌ أكثر، ومذكورٌ في الصلوات أكثر، ومكرَّمٌ أكثرَ مما في الماضي.

ففي قلبِ العاصفة وعصفِ الرُّعودِ يَنكشفُ صمتُهُ تدريجيًا.

العلاّمة أرنست حلو