مقالات

“المسيح قام وأنا رأيته”

“المسيح قام وأنا رأيته” (القدّيس أنطونيوس الكبير)

القيامة
ماذا حدث يوم القيامة؟

مقدّمة:
مفهوم الإختصار:
أ. الجزء يمثّل الكل:

  • كل حبّة تراب، تملك في تكوينها مختصرَ ما يوجد في -كلّ التراب الموجود على الكرّة الأرضيّة.
  • كلّ نقطة ماء، تحتوي في تركيبتها، مختصر ما يوجد في كلّ مياه المحيطات.
  • كل نسمة من الهواء، تحتوي في تركيبتها الأساسيّة، مختصر ما يوجد من هواء يغلّف الكرة الأرضيّة.
  • كل شعاع صغير يحتوي في تركيبته الأساسيّة، مختصر ما يوجد من ضوء في الكون.
  • كلّ قبس نور يخرج من شمعة مضاءة، يحتوي في تركيبته الأساسيّة، مختصر كل ما يحترق على وجه الأرض.
  • كل إنسان يحمل في تركيبته البيولوجيّة، مختصر العناصر ال ٩٩ التي يتركّب منها الكون.
  • كلّ رئيس مجموعة يمثل كل مجموعته، وكلّ رئيس دولة أو مملكة يمثّل كلّ شعبه.
  • ويسوع يختصر بطبيعته البشريّة كل البشر الذين وجدوا وموجودون وسيوجدون على سطح الأرض.

ب. ما يحدث للمختصر من تحولات جوهريّة ممكن أن يعطي الفرصة ليحدث مع من يمثّل أي الكل الذي يمثّله.
ج. إذا كان الإنسان يمثّل بتركيبته البشريّة كل عناصر الكون، وحدث أن انتقل هذا الإنسان الى دنيا الخلود، فهذا يعني أن العناصر التي يمثّلها يمكنها أن تنتقل هي بدورها الى الخلود. أليس هذا ما دفع القدّيس بولس الى القول في رسالته الى أهل رومة الفصل الثامن (٢٠-٢٣): “إذ أخضعت الخليقة للباطل – ليس طوعا، بل من أجل الذي أخضعها – على الرجاء، لأن الخليقة نفسها أيضا ستعتق من عبودية الفساد إلى حرية مجد أولاد الله. فإننا نعلم أن كل الخليقة تئن وتتمخض معا إلى الآن وليس هكذا فقط، بل نحن الذين لنا باكورة الروح، نحن أنفسنا أيضا نئن في أنفسنا، متوقعين التبني فداء أجسادنا”.
وإذا كان يسوع بطبيعته البشريّة يمثّل كل البشر، ألا يحدث معنا ما حدث معه في موته وقيامته؟

ماذا حدث مع يسوع: الإنسان الأوّل كانت حياته بكلّيتها من الثالوث “جبل الرب الإله الإنسان من التراب ونفخ في أنفه نسمة حياة فأصبح نفساً حيّة”، ولكن الإنسان انفصل عن الله وفصل حياته عن الله، وأصبحت حياته تأتي من الناقص فقط، من الإنسان. يسوع عاد على الصليب وخسر كل مرجعيّة بشريّة لحياته، أي خسر كلّ مصدر حياة، أي كل ينبوع حياة على الأرض ومات، وذلك كي يقبل قوة حياته بكليّتها، فقط، من والده الذي هو مصدر كلّ حياة. هناك على الصليب، استعاد يسوع من والده الحياة التي خسرها بموته؛ وهذه هي القيامة: مصدر كلّ حياة فينا هو الآب لذلك معه تصبح حياتنا على مثال حياته أبديّة.

يسوع من على صليبه، بموته حقّق هذه الحقيقة مختصراً البشريّة التي سبقته، والموجودة والتي ستوجد. وكلُّ بشرٍ يريد أن يبلغ ما بلغت بشريّة يسوع، فما عليه إلا أن يتطعّم بهذه البشريّة فينال نفس مصيرها. وهنا نعود ونكتشف أهميّة القربان وأهميّة أن تكون نوعيّة حياتنا على مثال حياة يسوع، ونوعيّة شخصيتنا على مثال نوعيّة شخصه.

من هنا سنتأمّل بحقيقة القيامة بثلاث نقاط:
١. العجائب الكونيّة: الأعجوبة الكونيّة الأولى كانت خلقُ الكون والإنسان، لأنّها شملت كل الكون وكلّ المخلوقات، وعلى رأسها الإنسان. الأعجوبة الكونيّة الثانية كانت التجسّد، لأنّ حدث التجسّد لم يكن لشعب معيّن، إنّما للخليقة كلّها، منذ فجر التاريخ، حتى نهاية الأرض. الأعجوبة الكونيّة الثالثة كانت القيامة، لأن الخلاص لم يحقّق لفئة من الناس إنّما للجميع: للأبرار والخطأة، للأخيار والأشرار، للمؤمنين وللملحدين، للمسيحيين، ولغير المسيحيين.
هذه العجائب الكونيّة الثلاث، تدفعنا اليوم، في زمن انتشار فيروس كورونا المستجدّ، وما نتج عنه، أن ننتظر أعجوبة كونيّة رابعة. أنا لا أعرف شكلها، ولكنّني أشعر بها. الربّ، وبعد أن ابتعدت البشريّة عنه كثيراً، وراحت جماعات مقتدرة سياسياً، ومالياً وإقتصادياً، وإعلامياً، وتجارياً، تحضّر لإعلان مجيء المسيح الدجّال، سمح أن يجرّبنا بعمل أيدينا، كما فعل في الأعاجيب الثلاث، ليردّ الإنسان الى حقيقته، الى والده السماوي. سيكون هناك أعجوبة كونيّة، غير عنفيّة، وغير استعراضيّة، إنّما خفيّة ولكنّها تطال الضمير، والوجدان، والعقل، والقلب، واليدين، والشفاه. ستكون هناك أعجوبة كونيّة، تعود وتطهّر الأرض من ثقافة اللاأدرية والنسبيّة والإستهلاكيّة والماديّة، من ثقافة عبادة المال والسلطة، من ثقافة اللامعنى والفراغ والوحدة والعزلة، من ثقافة تأليه اللذّة والجسد على حساب الرغبات الكبيرة وأنّاة الروح. هذه الأعجوبة الكونيّة ستأتي ويسوع، كما قال البابا فرنسيس، سيفيض من جديد الخمرة الطيّبة على البشريّة، سيعيد للإنسان قيمته وكرامته، سيعيد الإنسانيّة الى قيمها الإنسانيّة، وسيعيد السلطة الى رسالتها الأساسيّة التي هي الخدمة وليس التسلّط. بالمختصر، هذه الأعجوبة الكونيّة ستعيد الأمور الى مكانتها الحقيقيّة… الله نبع كلّ حقيقة، ويسوع هو الوجه الناصع الذي يعكس وجه الآب، والروح القدس هو مرشدنا الى يسوع. الإنسان هو رأس المخلوقات وسيّدها، وميزان الصلاح محبّة الله ومحبّة القريب.

٢. المسؤولية الشخصيّة والجماعيّة: في الأعجوبة الأولى سلّم الله الإنسان الإهتمام بالأرض وتسمية المخلوقات، أي إعطاء لكل خليقة معنى وجودها. في الأعجوبة الثانية، سلّم الله ذاته للإنسان بشخص مريم ويوسف وغيرهم. في الأعجوبة الثالثة سلّم التلاميذ مسؤوليّة نقل يسوع الى العالم أجمع حين قال: “إذهبوا وعلّموا جميع الأمم، وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس”، واليوم علينا أن نتحضّر لكي نستلم المرحلة المقبلة ولا نستقيل، أو نشوّه ما عاشه اساساً الرب فيما بيننا وسلّمنا إيّاه نقياّ بشخص الرسل. العهد الجديد الحق لم يبدأ بعد. حتى الآن فشلنا بإقناع الأجيال المتلاحقة، فشلنا بإقناع العلم وأهل العلم، فشلنا بإقناع الفلاسفة والأدباء، والشعراء والطامحين الى أنظمة جديدة بأهميّة يسوع ومشروعه الخلاصيّ. أمام أحلامهم المهترئة، ومخاوفهم الإنسانيّة الجبانة، أطلّت خطايانا وانحرافاتنا وفريسيتنا بقرونها وحرمتهم من مرجعيّة تقودهم في السبل الصحيحة. مع بطرس وبولس والجماعة الأولى حتى الربع الأوّل من القرن الرابع كانت رسالة الكنيسة بريئة أصيلة، لكن فيما بعد تحوّلت إلى مجهود أفراد. فمن أصحاب الطبيعة الواحدة، الى أصحاب الإرادة الواحدة، الى حرب الأيقونات، ثم قضيّة انبثاق الروح القدس فالإنقسام بين كنيسة شرقيّة وكنيسة غربيّة، ثمّ الحروب الصليبيّة، ونشوء دولة الفاتيكان، ثمّ محاكم التفتيش، ثمّ نشوء الإصلاح البروتستنتي وما خلّف من حروب دامية، ثم الكنيسة الأنجليكانيّة، ثمّ اليوم الإنحرافات الجنسيّة التي طالت كبار المسؤولين في الكنيسة…. نحن بحاجة الى العودة لبراءة الرسالة المسيحيّة، وهنا نداءٌ استشفّه من قداسة الحبر الأعظم الى غبطة بطاركة الشرق الكاثوليك وغير الكاثوليك، وأساقفته، ورهبانه وراهباته، وكهنته، المسيح يريدنا أن نكون مكانه في هذه المحطّة المفصليّة من تاريخ البشريّة. فلا نبقينّ متقوقعين في عالمنا المخمليّ، بل لننزل إلى واقع الناس، ونخسر كلّ شيء ماديّ نملكه فنربح المسيح في الإنسان والإنسان في المسيح.

٣. فلنَترُك يسوع يعمل فينا من جديد بقوّة الروح القدس. الروح الذي قاد التلاميذ الأوائل، فلندعه يقود خطواتنا متخطّين ذهنيّة سمعان الساحر، وحنانيا وسفيرة، متمسّكين بروحانيّة بولس الذي قال: الحياة بالنسبة لي هي المسيح والموت ربحٌ لي. دعونا نتذكّر، كما قال المطران غوشيه في تيريز الطفل يسوع إنّ لكل عصر يرسل الله أشخاصاً ليصوّب التاريخ. فلنتحضّر لنكون هؤلاء المؤمنين البسطاء الذي سيعمل فيهم يسوع ليصوّب طريق البشريّة الى المراعي الخصيبة.

والمسيح قام حقاً قام