مقالات

التمييز في رماديّة حياتنا

من أكثر الأمور التي تُزعج الإنسان والتي لا يستطيع تحملّها هي الرماديّة التي يسبّبها الغموض (الغموض في مجرى حياته أي في مسيرته المهنيّة، في علاقاته العاطفيّة أو الاجتماعيّة إلخ) أو الشكّ (في بعض الأحداث التي تواجهه أو الأفكار التي تُعرض عليه). تلك الرماديّة تسبّب التردّد، الخوف والقلق من مستقبلٍ مبهمٍ ومجهولٍ. من هنا، يبحث عن الوضوح على جميع الأصعدة (أبيض أو أسود) ويسعى بشتى الطرقِ لبناء علاقاتٍ وطيدةٍ مع أشخاصٍ شفافةٍ صادقة لا تعيش الازدواجيّة أو المرائيّة (رمادي). ولكن شتّان ما بين الرغبة والواقع!

“يجب أن نعتاد على التمييز في الرمادي لأنّه ليس كلّ شيء في هذه الحياة أبيض أم أسود بل يسود أحيانًا كثيرة الرمادي” هذا ما قاله البابا فرنسيس في إحدى مقابلاته. لنتذكّر سويّةً كم من مرّة دعينا في حياتنا الشخصيّة أو الجماعيّة (عائلة، رعيّة، وطن…) إلى اتخاذ خياراتٍ مصيريّةٍ من خلال الاختيار مثلًا بين أمرين رماديَّين يحملان كلاهما في طيّاتهما بعض الخير! كم هو صعبٌ التمييز في قلب واقعٍ رمادي ولكن لا نخف ولا نتراجع! فالحلّ ليس بالهروب بسبب الخوف من التغيير والاختباء في شرنقة ضماناتنا الأرضيّة (كالسلطة والمال) ولا الاكتفاء بأجوبةٍ بشريّةٍ مزيّفة تدّعي إزالة الغموض لإراحة ضمائرنا (إدعاء البعض مثلًا أنّ غضب الله هو سبب أزمة كورونا). ولكن، كيف نميّز إرادة الله في قلب رماديّة حياتنا؟
كي نستطيع الإجابة على هذا السؤال، لنتأمّل بماهيّة التمييز في حياتنا المسيحيّة. التمييز ليس تقنيّة نكتسبها أو تطبيقًا ننزله في “جهاز حياتنا” أو سلعة نشتريها من إحدى المحلّات بل هو أوّلًا نعمة وعطيّة من الروح القدس لاتباع المسيح والتشبّه به بطريقةٍ أفضل. التمييز هو الدخول في مدرسة الروح وتعلّم لغته وأوقاته (تمرين أنفسنا على صبر الله وأوقاته المختلفة عن أوقاتنا) والتي تساعد المؤمن على تمييز صوت الآب واكتشاف مشروعه وإرادته لتحقيق الرسالة التي دُعي إليها من خلال خدمة الآخرين. ليس هناك تمييز حقيقي بدون خروج الانسان من ذاته (لاسيّما من أفكاره الشخصيّة الضيّقة) للانطلاق في مغامرة السير في حضرة الله فيرى نفسَهُ على ضوء منطق الله وكلمته.

لنَغرف من ينابيعٍ روحيّةٍ تساهم في نموّنا في عطيّة التمييز فيصبح فينا فنًّا ونمط حياة. النبع الأساسي هو الصلاة أي اللقاء الصامت والحميم بين الله والانسان فيرى الابن كلّ شيء (المشاكل، الآخرين، العالم) لا بحسب الحالة التي يعيشها (فرح أو كآبة وأيّ شعورٍ آخر) بل بعيني أبيه. التأمّل بكلمة الله، الاقتداء بالمسيح، الالتزام في الجماعة الكنسيّة، الاصغاء لتعليم الكنيسة التي تعلنه السلطة الكنسيّة، عيش الأسرار، القراءة الروحيّة، فحص الضمير اليومي والتنشئة الدائمة لضميرنا تساهم هي الأخرى في نموّنا في التمييز الذي هو مسيرةٌ روحيّة يوميّة لا تنتهي أبدًا.

في الختام، في وسط “رماديّة الحياة” التي نعيشها اليوم، لننتبه أحبائي أن نتحوّل إلى مؤمنين “رماديّين” فاترين ينطبق علينا كلام رؤيا القدّيس يوحنّا: “إِنِّي عالِمٌ بأَعمالِكَ: إِنَّكَ لا بَارِدٌ ولا حَارّ، وَلَيْتَكَ كُنْتَ بارِدًا أَو حَارًّا! ولـكِنْ بِمَا أَنَّكَ فَاتِر، لا حَارٌّ ولا بَارِد، فَقَدْ أَوشَكْتُ أَنْ أَتَقَيَّأَكَ مِنْ فَمِي” (رؤ 3: 15-16). لنصلِّ للروح القدس، روح الحكمة، ليحرّرنا من روح “الفضوليّة السلبيّة” التي تجعلنا نرغب بإزالة كلّ غموض في هذه الحياة من خلال إيجاد كلّ الأجوبة ومعرفة كلّ شيء عن المستقبل (الرغبة أن نكون الله بدون الله) ويزرع فينا روح الثقة فنكونَ أنبياء القرن الحادي والعشرين نميّز إرادة الآب ونعمل بها فيلمع فينا نور الرجاء: نورٌ شفافٌ يشهد في وسط سماء هذا العالم الرمادي أن الله حاضرٌ في وسط شعبه وله وحده الكلمة النهائيّة.

Avatar photo

الخوري ايلي اسعد

كاهن في أبرشية انطلياس المارونيّة.
ماجستير في اللاهوت الادبي والاخلاقي من الجامعة الحبريّة الغريغوريّة - روما، إيطاليا.