مقالات

التَّوبة في المسيرة السِّينودسيَّة

Provided by : matcfelipe/unsplash

موقع Allah Mahabba – التَّوبة في المسيرة السِّينودسيَّة

مقدِّمة
السِّينودس هو من طبيعة الكنيسة، وما التُّوبة الكنسيَّة سوى العبور نحو هذه الطَّبيعة لعيش الوحدة، صورةِ الثَّالوث، في قلب الكنيسة. لا كنيسة دون لقاء يجمع المؤمنين بالثَّالوث، الآب والابن والرُّوح القدس، الذي منه تعيش الكنيسة الحبّ، والفرح، والسَّلام، والوحدة، لأنَّ الكنيسة هي مدرسة الإيمان، مدرسة الصَّلاة، ومدرسة الرُّوح القدس، كونها تصلِّي لتبقى واحدة كما أرادها الرَّبُّ يسوع (يو 17).

دعا قداسة البابا فرنسيس إلى عقد سينودس، تحت عنوان “كنيسة سينودسيَّة”، يشترك فيه أبناء الكنيسة الكاثوليكيَّة، إكليروسًا وعلمانيِّين، لسنة 2023، ليس لدرس مواضيع مبنيَّة تمامًا من حيث المعنى والمبنى، أو الشَّكل والمضمون، إنَّما لتفعيل مواهب الرُّوح القدس في أبناء الله المعمَّدين، الذين بالتزامهم في بناء الإنسان، يعبِّرون عن مفهوم التَّوبة في هذه المسيرة السِّينودسيَّة.

مفهوم التَّوبة في الكنيسة الرَّسوليَّة

على ضوء مقدِّمة إنجيل يوحنَّا نستشفُّ مفهوم التَّوبة الأوَّل، في الكرازة الرَّسوليَّة: “إِلى بَيْتِهِ جَاء، وأَهْلُ بَيْتِهِ مَا قبِلُوه” (1: 11). فالخطيئة هي رفض الله، وتفضيل الظُّلمة على النُّور: “جَاءَ النُّورُ إِلى العَالَم، فَأَحَبَّ النَّاسُ الظَّلامَ أَكْثَرَ مِنَ النُّور، لأَنَّ أَعْمَالَهُم كَانَتْ شِرِّيرَة” (يو 3: 19). مفهوم التَّوبة إذًا هو قبول الله والعمل بإرادته، وأمَّا العكس فيكون عمل الخطيئة والسَّعي إلى الهلاك. رفض آدم وحوَّاء إرادة الله (تك 2: 16-17؛ 3: 6)، وأمَّا يسوع في بستان النِّزاع فقال: “يَا أَبي، إِنْ أَمْكَن، فَلْتَعبُرْ عَنِّي هذِهِ الكَأْس! ولٰكِن، لا كَمَا أُريدُ أَنَا، بَلْ كَمَا أَنْتَ تُرِيد!” (مت 26: 39). كلُّ مفهوم الخطيئة كما البِرّ هو هنا، أو الدُّخول في شراكة مع النُّور، أو الدُّخول في شراكة مع الظُّلمة. ولدينا شواهد عديدة على عدم الأمانة للعهد بين الله والإنسان، بين الله وشعبه. وما التَّعبير الذي يَرِدُ في الصَّلاة الرَّبِّيَّة “لا تُدخِلْنا في التَّجربة” (مت 6: 13) سوى هٰذا الخوف والحذر من عمل إرادتنا بدل العمل بمشيئة الله. هٰذه هي التَّجربة العظمى الآدميَّة، أي مَن يكون المرجع للحياة، آدم أمِ الله؟ الخطيئة تبدأ عندما يبعد الإنسان عن الله، جاعلًا من ذاته مرجعًا، فيقع في الكبرياء، والظُّلمة، والأنانيَّة، وبالتَّالي في الخطيئة، أمَّا الاتّحاد بالله فهو التواضع، والنُّور، والشَّراكة، والبِرّ.

في هذا السِّياق يمكننا أن نتوقَّف عند كلام بولس الرَّسول، عندما التقى بالوثنيِّين اليونان في منطقة الأريوباغُس، لنكتشف معنى التَّوبة، التي تعني الاعتراف بالله كخالق كلّ شيء، به وإليه كلُّ موجود (أع 17: 22-34). هذه الخطوة تؤسِّس التَّوبة كحالة، لأنَّ مفهوم التَّوبة المسيحيَّة هي عيش البنوَّة لله الآب، إذ ندعوه بالرُّوح القدس أبَّا (غل 4: 6). ميزة هذه التَّوبة أنَّها ذات بعد إيجابيّ، بعيدًا عن المعنى السَّلبيّ، أي ممارسة توبة بسبب اقتراف خطيئة ما، فنحن بعيدون كلَّ البعد عن المعنى التَّكفيريّ، علمًا أنَّه حاجة لمعالجة التَّجاوزات، لكنَّ التَّوبة المسيحيَّة ترتكز على العلاقة البنويَّة مع الله الآب، أي تلك الدَّالَّة التَّامَّة، التي من خلالها نعيش التَّوبة أي الحبّ الجامع الأب بابنه بواسطة روحه الحيّ والمحيي.

السِّينودس يشترط الإصغاء لإلهامات الرُّوح القدس

المسيحيّ هو مَنْ تتلمذ للكلمة الإلهيّ، يسوع المسيح، المعلِّم الأوحد، هو الَّذي قال لرسله، ولنا من خلالهم: “لـكِنَّ البَرَقْلِيط، الرُّوحَ القُدُس، الَّذي سَيُرْسِلُهُ الآبُ بِاسْمِي، هُوَ يُعَلِّمُكُم كُلَّ شَيء، ويُذَكِّرُكُم بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُم” (يو 14: 26). عطفًا على هذه الحقيقة، يصبح الإصغاء لإلهامات الرُّوح القدس حاجةً ملحَّة لتكوين الكنيسة، جسد المسيح يسوع، والحفاظ على وحدتها.

السِّينودس هو اجتماع الكنيسة على عيش الإيمان بالثَّالوث الأقدس، الآب والابن والرُّوح القدس، ومنه تبدأ المسيرة السِّينودسيَّة، تماشيًا مع مفهوم التَّوبة في العصر الرَّسوليّ، والشَّاهد هو خطبة بطرس الرَّسول بعد حلول الرُّوح القدس، يوم العنصرة (أع 2: 1-47)، وقبولهم كلمة الله التي نطق بها باسم الكنيسة المجتمعة.

الإصغاء إلى كلمة الله هي ميزة التِّلميذ، بحيث يصبح إبنَ الله، إبنَ الكنيسة، ما يجعل الانتماء إلى العهد حالة، وبالتَّالي يحقِّق هويَّته كخليقة جديدة، لأنَّ العبور إلى جسد يسوع المسيح الأسراريّ، أي الكنيسة، والاتّحاد به، يشترط تفعيل مَثَل الكرمة والأغصان، كما عبَّر عنه الرَّبُّ يسوع: “أُثْبُتُوا فِيَّ، وأَنَا فِيكُم. كَمَا أَنَّ الغُصْنَ لا يَقْدِرُ أَنْ يَحْمِلَ ثَمَرًا مِنْ تِلْقَاءِ ذَاتِهِ، إِنْ لَمْ يَثْبُتْ في الكَرْمَة، كَذَلِكَ أَنْتُم أَيْضًا إِنْ لَمْ تَثْبُتُوا فِيَّ” (يو 15: 4).

الحبيب هو مَنْ يُصغي إلى صوت الحبيبة، وهذا دليل حبّ عميق، شفَّاف وصافٍ، ممَّا يدلُّ على أنَّ بذل الذَّات هو من علامات البقاء، كما علَّم ربُّنا يسوع: “مَنْ يُحِبُّ نَفْسَهُ يَفْقِدُهَا، ومَنْ يُبْغِضُهَا في هـذَا العَالَمِ يَحْفَظُهَا لِحَيَاةٍ أَبَدِيَّة” (يو 12: 25)، وفي مناسبة أخرى قال: “لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هـذَا، وهُوَ أَنْ يَبْذُلَ الإِنْسَانُ نَفْسَهُ في سَبِيلِ أَحِبَّائِهِ” (15: 13).
عندما قال الله لشعبه: “إِسمَعْ يا إِسْرائيل: إِنَّ الرَّبَّ إِلهَنا هو رَبٌّ واحِد” (تث 6: 4). في هذا الإطار، يكون مفهوم السَّماع هو الطَّاعة في حقل الكتاب المقدَّس، الَّتي تعني الإيمان بالله والعمل بحسب إرادته؛ وما المسيرة السِّينودسيَّة سوى التَّشبُّه بالرَّبِّ يسوع الَّذي قال: “طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ مَنْ أَرْسَلَنِي، وأَنْ أُتِمَّ عَمَلَهُ” (يو 4: 34).

الكنيسة مدرسة سينودسيَّة

كنيسة المسيح يسوع هي مدرسة سينودسيَّة عابرة للأجيال، تحاكي جميع الأعمار، والأجناس، والشُّعوب، إليها ينتسب الفقير والغنيّ، الفيلسوف والعامل، الصَّغير والكبير، حسب ما جاء في قانون الإيمان النِّيقاويّ (325)-القسطنطينيّ (381): “… وبكنيسة واحدة، جامعة، مقدَّسة، رسوليَّة …”. هذه المقاييس تؤسِّس وتعزِّز الشَّراكة بين أبناء الإيمان الواحد، وبين أبناء الكنيسة الواحدة، التي رأسها الأوحد يسوع المسيح (كول 1: 18، 24).

الكنيسة-المدرسة هي ذروة الحبّ والفرح والتوبة بمفهومها الأوَّل، هي ملكوت الله في الأرض والسَّماء، لأنَّ أبناءَها القدِّيسين أخبروا ويخبرون عن كيانها وهويَّتها الصَّحيحة، رغم ضعفها وخوفها، لكنَّها تبقى آية الله في العالم، ورمز التَّضحية والعطاء على مثال معلِّمها الرَّبِّ يسوع.

خاتمة
السِّينودس هو ما تعيشه الكنيسة تجاوبًا مع دعوة يسوع لتلاميذه: “فحَيْثُمَا اجْتَمَعَ اثْنَانِ أَو ثَلاثَةٌ بِاسْمِي، فَهُنَاكَ أَكُونُ في وسَطِهِم” (مت 18: 20). فنحن ككنيسة سينودسيَّة نجتمع مع بعضنا البعض بروح الرَّبِّ القائم من الموت، لأنَّ الرَّبَّ يسوع الذي غلب الموت بالموت (عب 2: 14)، وقام، هو حيٌّ أبدًا، وفاعل في كنيسته مدى الأجيال. هكذا يمكننا أن نرى أنَّ المسيحيَّة هي الوحيدة التي لها هذه الإمكانيَّة للاجتماع والعمل معًا، لأنَّ الذي يجمعنا كجسد هو الرَّأس الحيّ الدَّائم يسوع المسيح.

التَّوبة في المسيرة السِّينودسيَّة هي الخروج الدَّائم من الذَّات، من الأنانيَّة، والنَّظر إلى الخير العامّ، لأنَّ كلَّ معمَّد في كنيسة المسيح منحه الرُّوح القدس موهبة ليستثمرها في خدمة الجماعة (1 كور 12)، بهدف بنائها ونموّها بالقداسة. الخوف والقلق والاضطراب وعدم الثِّقة بالنَّفس ليست في قاموس المسيحيّ، إذا عرف أنَّه ابن الله الحيّ. فإذا كان الله “أزليَّ الشَّباب” كما قرأها البابا فرنسيس، فنحن أبناؤه الأحياء به، يجب ألَّا ندع الغضب، والبخل، والحقد، والضَّغينة، والحسد، وغيرها من علامات الموت، تقود الإنسان إلى الشَّيخوخة الرُّوحيَّة، فالموت.

توصينا القوانين الرَّسوليّة (380) بأن يجتمع الأساقفة مرَّتين في السنة، لأجل دراسة عقيدة الإيمان، ومعالجة شؤون الكنسية التدبيريّة؛ المرّة الأولى في الأسبوع الرَّابع من أيّام الخمسين، والمرّة الثانية في الثاني عشر من شهر إيبربيريتايوس Hyperbérétaeos – Ὑπερβερεταῖος، وهو الشهر الأخير في التقويم المقدونيّ ولدى يونانيِّ آسيا. كما نطالع حول هذه الوصيّة في العديد من المجامع المحلِّيَّة والمسكونيّة. الموعد الأوّل هو بهدف أن تتكلَّل أعمال الآباء بحلول الروح القدس، القريب من عيد العنصرة، والثاني بهدف الدخول إلى الكنيسة مع بداية السنة الطقسيّة وقد تصالح الجميع مع بعضهم البعض، لأنّ الكنيسة هي المتّحدة والواحدة، لا تقبل الانشقاقات والخصومات والنزاعات، تماشيًا مع ما علّم رسول الأمم: “فَإِنْ رَغِبَ أَحَدٌ في أَنْ يُجَادِل، فَلَيْسَ هـذَا مِنْ عادَتِنَا، ولا مِنْ عَادَةِ كَنَائِسِ الله” (1 كور 11: 16).

بعد قيامة المسيح من بين الأموات، وصعوده إلى أبيه السَّماويّ، وإرسال روحه القدُّوس لنا، لم يَعُدِ الشَّعب اليهوديّ المسؤولَ الوحيدَ عن رسالة الله الخلاصيَّة، وهذا التَّطوُّر اللَّاهوتيّ في رصيد البشريَّة هو من عمل الله، الَّذي تحقَّق بموت يسوع، الَّذي كرَّس عهدًا جديدًا، دائمًا ونهائيًّا بذبيحة نفسه (عب 10: 10). فالكنيسة أصبحت تضمُّ كلَّ شعوب الأرض، وهذا صدى لرسالة الصَّليب، الَّتي قال عنها القدِّيس أثناسيوس الإسكندريّ († 373): “على الصَّليب وحده يموت الإنسان وذراعاه ممدودتان. وكان من الموافق أن يقاسِيَ الرَّبُّ هذا الموت ويبسط يديه: بالواحدة يشدُّ إليه الشَّعب القديم، اليهود، وبالثَّانية يشدُّ الأمم، ويجمع الفريقين فيه”.

كتب البابا بيُّوس الثَّاني عشر (1939-1958) رسالة إلى الكنيسة الكاثوليكيَّة تحت عنوان “جسد المسيح السّرّيّ”، يجدر بنا أن نطالعها لأنَّها ألهمت بطريقة مباشرة أعمال المجمع الفاتيكانيّ الثَّاني، الذي تكلَّم عن الكنيسة في مفهوم لاهوتيّ جديد، في الوثيقة التي حملت عنوان “دستور عقائديّ في الكنيسة”.

تابعوا قناتنا

https://www.youtube.com/allahmahabbaorg

شكراً لزيارة موقعنا وقراءة “التَّوبة في المسيرة السِّينودسيَّة”. ندعوك لمشاركة هذه المقالة مع أصدقائك ومتابعتنا على مواقع التواصل الإجتماعي على فيسبوك، انستغرام، يوتيوب وتويتر. نسأل الله أن يضع سلامه في قلبك أينما حللت ومهما فعلت وخاصّة في لحظات الخوف والألم والصعاب. ليباركك الربّ ويحفظك، ليضىء بوجهه عليك ويرحمك وليمنحكم السّلام!