لِنَسيرَ مَعًا
مقالات

لِنَسيرَ مَعًا

“لِنَسيرَ مَعًا”

لَسنا هُنا لِنَبقى جالِسينَ عِندَ قارِعَةِ الطَّريق، وَلا لِنَقِفَ مَكانَنا دونَ حِراكٍ في جُمودٍ ثابِتين. خُلِقنا لا لِنَكونَ لِوَحدِنا، بَل لِنَكونَ مَعًا أَحياءً في دينامِيَّةِ الحُبّ، لِذَلِكَ عَلَينا أَن نَسيرَ مَعًا، وَنَركُضَ مَعًا، لا في دُروبٍ تُفَرِّقُنا، وَلا في أَزِقَّةٍ تَجعَلُنا خُصومًا لِبَعضِنا البَعض، إِنَّما عَلَينا أَن نَجِدَّ في “الطَّريقِ” صُعودًا إِلى المـَدينَةِ المـُقَدَّسَة، إِلى مَسكِنِ العَلِيّ… .

مَن يَسيرُ هُوَ حَيٌّ يَصنَع طَريقَهُ بما يَعيشُهُ وَيَصبو إِلَيه. وَتَبقى الطَّريقُ وَسيلَةً تَصِلُ المـَسعى بِالهَدَفِ وَالغايَة وَبِدونِها لا بِدايَة وَلا نِهايَة، فَهيَ تُشَكِّلُ الوَسَط، إِنَّها “الوَسيط”، لِذَلِكَ جَعَلَ لَنا يَسوعُ مِن ذاتِهِ في تَجَسُّدِهِ الطَّريقَ المـُؤَدّي إِلى الآب؛ فَإِن كانَت الشَّريعَةُ المـوسَوِيَّةُ لِمَن يَحفَظُها طَريقًا إِلى البِرّ، فَإِنجيلُ يَسوعَ المـَسيحَ هُوَ الطَّريقُ إِلى اللهِ وَالإِنسانِ مَعًا، هُوَ الطَّريقُ إِلى القَداسَة في مِلءِ المـَحَبَّة. بِواسِطَةِ المـَسيح وَمَعَهُ وَفي مَحَبَّتِهِ لَنا نَصِلُ إِلى مَعرِفَةِ أَنفُسِنا وَمَعرِفَةِ الآخَرين.

كُلُّ الطُّرُقاتِ وَالدُّروبِ بِاستِطاعَتِنا أَن نَسيرَ فيها لِوَحدِنا، أَمَّا طَريقُ المـَسيح، عَلى خِلافِ ذَلِكَ، فَهيَ دائِمًا تَعِجُّ بِالجُموعِ الغَفيرَة الصَّاعِدَة مَعَهُ إِلى أُورَشَليم. تاريخُ كُلٍّ مِنَّا يَعِجُّ بِالجُموعِ الغَفيرَةِ وَيَتَوَسَّطُ زَحمَتَها المـَسيحُ نَفسُهُ، وَهوَ يُنادي كُلًّا مِنَّا بِاسمِهِ: يُناديكَ، يُناديكِ وَيُناديني، “هو الَّذي هو” يُنادينا لِنَسيرَ مَعًا، لا لِنَكونَ حَواجِزَ تُعيقُ اللِّقاءَ بِهِ، بَل جِزءًا أَساسِيًّا مِنَ طَريقِهِ إِلى كُلِّ واحِدٍ مِنَّا.

نَبدَأُ في السَّيرِ مَعًا من مَركَزِيَّةِ إِنسانِيَّتِنا المـَخلوقَةِ عَلى صورَةِ اللهِ كَمِثالِه، طَريقُنا قَبلَ أَيِّ شَيءٍ آخَر هِيَ إِنسانِيَّتُنا المـَدعُوَّةُ إِلى الكَمال، وَالسَّيرَ فيها يَعني تَمَوضُعَها عَلى سِكَّةِ النُّمُوّ وَالنُّضجِ الصَّحيح الكامِنَة في تَعليمِ يَسوع. اللِّقاءُ مَعًا عَلى وَقعِ كَلِمَةِ يَسوع يُصَوِّبُ مَسارَنا إِلى اللِّقاءِ الأَكبَر، كَما حَدَثَ مَعَ تِلميذَي عَمَّاوس، إِذ نَجِدُ أَنفُسَنا في شَرِكَةٍ حَقيقيّةٍ مَعَ الكَنيسَة لِأَنَّنا أَعضاءٌ فيها.

يُبرِزُ اللِّقاءُ الحَقيقيُّ بُعدَ الإِنتِماءِ إِلى الإِنسانِيَّةِ عَن طَريقِ الشَّرِكَة الَّتي تَتَجَلَّى في جِسمِ الكَنيسَة حَيثُ كُلُّ عُضوٍ يُحَقِّقُ نُمُوَّهُ عَن طَريقِ المـُشارَكَة المـُتَبادَلَة المـُؤَسَّسَة على المـَحَبَّة بَينَ جَميعِ الأَعضاءِ في الخَير العام. في الشَّرِكَة الكُلُّ مَسؤولٌ وَمَعنيّ، وَفي المـُشارَكَة عَهدٌ وَعَطاءٌ يَبدَأُ بِالإِنصاتِ وَالإِصغاءِ لِلشَّريكِ وَلِمَن يَعمَلُ بِالنِّعمَةِ في حَياةِ الجَماعَةِ كُلِّها.

في الإِصغاءِ المـُنفَتِح نَتَلَقَّفُ الرِّسالَةَ في كُلِّ جَديدٍ يُنيرُهُ الرُّوحُ القُدُس، فَتَنفَتِحُ عَينَي قَلبِنا عَلَيهِ بِدَهشَةٍ وَإِعجاب. في طَريقِ سَيرِنا مَعًا، عَلَينا أَن نُصغي جَيِّدًا لا لِأَنفُسِنا وَلا للشَّريكِ الَّذي يُرافِقُنا وَحَسب، بَل لِمَن يُثَبِّتُ خَطَواتِنا في الحَقِّ وَيُضرِم قُلوبَنا بِالحُبّ، وَهذا ما يَجَعَلُنا نَتَخَطَّى الصُّعوباتِ وَالمـَشاكِلِ الَّتي تَبدو باهِتَة أَمامَ سَرّ المـَسيح الحَيّ. كُلّ مَن يُصغي جَيِّدًا يَستَطيعُ أَن يُحاوِرَ وَيُمَيِّزَ وَيَختارَ، وَهذا في حَدِّ ذاتِهِ يُشَكِّلُ مَسارًا تَأَمُّلِيًا روحِيًّا لِمعرِفَة الرِّسالَة المـُشتَرَكَة الَّتي يُبَلِّغُنا إِيَّاها الرَّبّ.

لِنَسيرَ مَعًا… فالسَّيرُ مَعًا لا يَعني بُلوغَ مَكانٍ بَعيدٍ، وَلا ذَهابًا إِلى اللِّقاءِ بِالمـَسيحِ خارِجًا عَنَّا، بَل يَعني أَن “نَحيا وَنَتَحَرَّكَ وَنوجَدَ فيهِ” (أع 17: 28) هُنا وَالآن معًا، وَفقًا لِمَشيئَتِهِ القُدُّوسِة، فَنَكونَ نورًا لِلعالَم.