تابعونا على صفحاتنا

مقالات

“المدينة الخالدة” وصمت الله

روما… “المدينة الخالدة”؟!
نظرتُ إليها… وإذا بها ذات آذارٍ، في مستهلّ دربه، تدخل في صمتٍ رهيبٍ، وإذا بالحزن يرخي بثقله على شوارعها وطرقاتِها، وإذا بها تئنّ فلا تُسمَع فيها إلّا آهات القلوب وصرخات الأعماق، وإذا بظلماتِها تبحثُ عن مِساحة ضوءٍ يحكي لها قصّة رجاءٍ آتٍ، وإذا بها خاويةً خاليةً… كيف؟” كيفَ جلستْ وحدها المدينةُ الآهلةُ بالشّعب؟ كيفَ صَارَتْ كأرملةٍ العظيمةُ في الأُمم… تبكي في اللَّيلِ بكاءً، ودموعُها علَى خَدَّيْهَا… كهنتُها متنهّدونَ، وعذاراها متحسّرات، وهيَ في مرارَة” (مرا 1: 1-4،2).
أهو الزوالُ يتسلّلُ طامعًا بزاويةٍ له في قلب “المدينة الخالدة”؟
أهو الخوفُ يطلّ مبعثِرًا صفحات أمجادٍ وعظمة تاريخٍ؟
أهو الألمُ يأتي ليُركع من جلسَتْ مع المجد ومن في حضرَتها وقوف؟!
أليستِ “المدينةُ الخالدةُ” خالدةً؟ ألا تستحقُّ أرضُنا الحياة؟ ألم توجد في الأساس لهذا؟ فلماذا؟… لماذا يلفّ الحزن الأمكنةَ والمطارح؟

إلهي، لا أعرف حتّى اللّحظةِ لماذا؟ ولكن… أحملُ كلمتك المقدّسة، أقلب صفحاتِها وأقعُ على سِفر تكوينٍ يعود بي إلى البدايات… هناك، عندما كانتِ الأرض خاويةً خاليةً، عندما كان الظلام غامرًا وجه الغمر بأسره، عندما كان صمتُ العدم مخيّمًا على كلّ وجودٍ،
” كان روحُ الله يرفُّ على وجه المياه” (تك 1: 2). في البدء وقبله كنتَ، وها أنتَ الآن حاضرٌ معنا، وستبقى أبدًا… أتراه خواء عبورِنا إلى خلقٍ روحيّ جديد؟!

ربّي، صمتكَ اليوم سرٌّ هو، وصمتي اليوم إيمانٌ هو، وصمت العالمِ اليوم فرصة إصغاءٍ عميقٍ هو، إصغاء إلى إلهٍ “في لحظات حياتنا المظلمة، يتكلّمُ في سرّ صمته” (البابا بندكتوس 16)، إصغاء إلى همسات الروح الخافتة تخاطبُ أعماقنا منتظرةً فرصة الإنصات إليها، وها قد أتت!

ربّي، ما حكايتُك والصمت؟ هل لي أن أدركَ قليلًا من سرّه، ولو بعض الشذرات؟ لا أعلم الكثير، ولكنني أعرفُ عميقًا أنّ هذا السرّ لا يُسبَر إلّا عند الصليب… هناك، حيث صمَتَ يسوع وهو الكلمة، هناك، حيث قال ابنُك كلَّ ذاته تاركًا للحبّ أن يتكلّم… هناك، فهمتُ أنّ الحبّ حين يلتقي بصمتِ الموت ويدخل قبره، يَلدُ مجدَ قيامةٍ وقوةَ رجاءٍ و أبديّةَ حياة! هذا هو رجائي في حزنِ أرضي اليوم وصمتِ “كوكب الحياة”.

فاعذريني أيّتها “الخالدة”، إنَّ خلودك ليس من أدباء أطلقوا عليكِ يومًا هذا اللّقب، ولا من شعراء تغنَّوا بما تتحلّين به من جمالٍ… بل من حبّ إلهٍ يعطيكِ وإيّانا من خلودِه خلودًا ومن فرحِه فرحًا عندما نؤمن عميقًا أنّ الحياةَ الأبديّةَ هي أن نعرفه هو الإله الحقّ وحده، ونعرف الذي أرسله، يسوع المسيح! (يو17: 3)

مفاتيح