مقالات

المسيرة السنودسيَّة وخبرة التمييز الروحي

Prodvided by: Simonesavoldi / Unsplash

موقع Allah Mahabba – المسيرة السينودسيَّة وخبرة التمييز الروحي

التمييز الروحي هو مسيرة صداقة وتناغم مع الروح القدس الذي « يَأتي لِنَجدَةِ ضُعْفِنا لأَنَّنا لا نُحسِنُ الصَّلاةَ كما يَجب، ولكِنَّ الرُّوحَ نَفسَه يَشفَعُ لَنا بأَنَّاتٍ لا تُوصَف. والَّذي يَختَبِرُ القُلوب يَعلَمُ ما هو نُزوعُ الرُّوح فإِنَّهُ يَشفَعُ لِلقِدِّيسينَ بما يُوافِقُ مَشيئَةَ الله » (رو 8/ 26-27). فهذه المسيرة، شخصيَّة كانت أم جماعيَّة، تسعى لاكتشاف مشيئة الربّ في واقع الحياة اليوميَّة. « فإِنَّكم جَميعًا، وقَدِ اعتَمَدتُم في المسيح، قد لَبِستُمُ المسيح ». وبالتالي عليكم أن « لا تَتشَبَّهُوا بِهذِه الدُّنيا، بل تَحَوَّلوا بِتَجَدُّدِ عُقولِكم لِتَتَبيَّنوا ما هي مَشيئَةُ الله، أَي ما هو صالِحٌ وما هو مَرْضِيٌّ وما هو كامِل » (رو 12/ 2).


لقد دعا الحبر الأعظم الكنيسة الجامعة إلى الدخول في مغامرة صعبة وطويلة من خلال « السَّيْر والتأمُّل معًا » حتى تعيش « الشركة وتحقيق المشاركة والانفتاح على الرسالة ». ويتطلَّب ذلك، قبل إقامة الافتتاحيَّات والاحتفالات والمهرجانات، الإصغاء إلى الروح القدس، كما وعد المسيح إذ قال: « ولكِنَّ المُؤَيِّد، الرُّوحَ القُدُس الَّذي يُرسِلُه الآبُ بِاسمي هو يُعَلِّمُكم جَميعَ الأشياء ويُذَكِّرُكُم جَميعَ ما قُلتُه لَكم » (يو14 / 26). فالاصغاء هنا هو الدخول في صداقة شخصيَّة عميقة مع هذا الأقنوم الفقير في الثالوث، الذي لا صوت محدَّد له ولا وجه ثابت له، فهو بالفعل فقير، حتى انّه يرجو أن نسمح له بأن نكون صوته ووجهه في هذا العالم، فيتجلى الربّ من خلال أبنائه وفي كنيسته التي ترغب أن تحيا في توافق ومصداقيَّة مع وصايا الرب وتعاليمه: « أَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بِكُلِّ قَلبِكَ، وكُلِّ نَفسِكَ، وكُلِّ قُوَّتِكَ، وكُلِّ ذِهِنكَ وأَحبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفسِكَ » (لو 10/ 27). إنَّ هذه المسيرة في بُعدها اللاهوتيّ بواسطة الشركة والوحدة في التنوُّع، والقانوني أي مشاركة كلّ المؤمنين في هذه المسيرة بالروح المجمعيَّة، والرعوي من خلال الرسالة المنفتحة على الأخوّة الإنسانيَّة لأجل خلاص العالم أجمع، هي في الحقيقة دعوة إلى السَّيْر مع المسيح بقوَّة الروح القدس لبلوغ الملكوت.


نعلم جيّدًا أنّنا في واقع حياتنا الروحيَّة والكنسيَّة قد نبتعد كثيرًا عن شريعة الحبّ هذه، وعن الروح المجمعيَّة التي كانت طريقة عيش الكنيسة الأولى، وعن روح الأخوَّة والرحمة، لذلك نحن بحاجة ماسَّة إلى مسيرة تمييز طويلة ومستدامة، فالتمييز الروحي هو ببساطة فنّ عيش ظروف الحياة اليوميَّة، من يوم لآخر وفي الظروف العاديَّة والبسيطة، تحت نور الله، وفي توافق ومصداقيَّة مع تعاليمه وشريعة محبَّته؛ بمعنى أن تكون حياتنا موجَّهة نحو الله نفسه، فلا نفقد مبدأ حياتنا المسيحيَّة وغايتها، كما يقول القديس إغناطيوس في بداية الرياضات الروحيَّة: « خُلق الإنسان ليُسبِّح الله ربَّنا ويكـرّمه ويخـدمه، وبهذا يخلّص نفسه ». والتمييز الروحيّ يساعد المؤمنين في مسيرتهم كي لا يفقدوا البوصلة، ويخلطوا بين الغاية والوسيلة، لذلك يكمل القديس إغناطيوس ويقول: « وأمَّا سائر الأشياء على وجه الأرض، فقد خُلقت لأجل الإنسان، ولتساعده على تحقيق الغاية التي لأجلها خُلق. لذلك ينبغي على الإنسان أن يستخدمها بقدر ما تساعده على إدراك غايته، ويجب عليه أن يبتعد عنها قدر ما تعوقه عن هذه الغاية ».


إن الجماعة المسيحيَّة، أينما وجدت، في جامعة، مدرسة، معمل أو داخل أرْوِقَة الكنيسة، هي في مسيرة تمييز لصوت الروح القدس، وعليها الدخول في مدرسة تمييز الأرواح كما يدعونا مار يوحنا: « أَيُّها الأحِبَّاء، لا تَركُنوا إِلى كُلِّ رُوح بلِ اَختَبِروا الأَرواحَ لِتَرَوْا هل هي مِن عِندِ الله. لأَنَّ كثيرًا مِنَ الأَنبِياءِ الكَذَّابينَ انتَشروا في العالَم » (1يو 4/ 1). لذلك على الكنيسة في مسيرتها السنودسيَّة أن تتدرَّب على طرق تمييز الأرواح وتتعلَّم أن «تشعر وتتذوَّق وتنتبه لعلامات حضور الروح القدس» وطرق تعاملها مع هذه العلامات. يقول القديس برناردس: «التمييز هو الإصغاء إلى صوت الله في ذواتنا»، بمعنى أن نفرز بين الأفكار والمشاعر والرغبات التي تسكن في داخلنا أو تأتينا من الخارج وتترك فينا شعورًا بالوحشة والانقباض (désolation) أو بالتعزية والانبساط (consolation)؛ لكي نختار الجيّد منها، أي كلّ ما يأتينا من الروح الصالح، وكلّ ما يزيد فينا من السلام والثقة والفرح والرجاء. فالروح القدس يلمس حياتنا برقَّة وعذوبة ولطف وحنان، يمنح الثقة في الله وفي الآخرين، يزرع الرحمة وينشر الرجاء ويزيد المحبَّة؛ فيخلق في النفس التعزية والانبساط.
أمَّا الروح الشرير، فهو الكذّاب والمخادع والقاتل؛ يترك خلفه القلق والشكّ والخوف واليأس؛ ويسعى لأن يشوّه الحقائق ويقود إلى الغضب والعنف والخلاف والكراهية؛ انه يلسع، يحزن، يثير القلق والاضطراب بدواعٍ كاذبة؛ إنه يترك النفس في انقباض، على نقيض عمل الروح الصالح.


يمّيز القدّيس إغناطيوس ثلاثة أنواع من الانبساط:
النوع الأوّل: هو « تلك الحالة التي فيها ينشأ في النفس تأثّر باطنيّ يحمل النفس على الاضطرام حبًّا لخالقها وربّها، وبعد ذلك لا تعود تستطيع أن تحبَّ أيّة خليقة على وجه الأرض لذاتها، بل في خالق جميع هذه الأشياء »، إنّها حالة آنيَّة تكون النفس فيها مضطرمة مملوءة بالحبّ والفرح. اختبر زكّا العشّار هذا النوع من الانبساط (لو19/ 1-10). لقد عرف زكّا كيف يتجاوب مع عمل الروح القدس فيه، فلم يعد يحبّ المال، ولم يعد عبدًا له، بل أعطى كلَّ ما لديه بفرح وسخاء، تعبيرًا عن حبّه وتقديره لدخول الرب في بيته.

النوع الثاني: هو « شأن النفس التي تذرف دموعًا تحملها على حبّ ربّها. وذلك بسبب التوجّع على خطاياها أو على آلام المسيح ربّنا، أو بسبب أُمور أخرى مُنظَّمة باستقامة في سبيل خدمته وتسبيحه ». إنها حالة النفس التي تتوجّع وتتألّم وتذرف الدموع بسبب خطاياها، أو بسبب ما تحمَّله المسيح من آلام لأجلها ولكي يخلّصَها. لقد اختبرت المرأة الخاطئة هذا النوع من التعزية، فلم تفتح فمها بكلمة، بل وبكلّ تواضع وانسحاق جاءت « مِنْ خَلْفُ عِندَ رِجْلَيه وهيَ تَبْكي، وجَعَلَت تَبُلُّ قَدَمَيه بِالدُّموع، وتَمسَحُهُما بِشَعْرِ رَأسِها، وتُقَبِّلُ قَدَمَيه وتَدهُنُهما بِالطِّيب » (لو7/ 38).

النوع الثالث: وهو « كلّ ازدياد في الرجاء والإيمان والمحبّة، وكلّ ابتهاج باطنيّ يجذب ويدعو إلى الأمور السماويَّة وإلى الخلاص الخاصّ بالنفس، ويمنح السكينة والسلام في خالقها وربّها ». إنّها حالة مستديمة من الابتهاج الباطني والسكينة والسلام. ومثال على ذلك التعزية التي اختبرها تلميذا عِمَّاوُس (لو 24/ 13-35). لقد ملأ الرجاء قلبهم، فلم يعودوا يقرؤون الأحداث بروح الفشل واليأس، بل تحوّل الهروب والخوف إلى ثقة وفرح ومشاركة، وعادوا يشاركون إخوتهم فرحة لقائهم مع المسيح القائم وكيف عرفاه عند كَسْر الخبز.


إنَّ المسيرة السنودسيَّة في سَعْيِها للإصغاء إلى صوت الروح القدس والدخول في مدرسة تمييز الأرواح، تحتاج أيضًا إلى أن تأخذ خطوات عمليَّة تساعدها في ديناميكية التمييز الروحي. فلا بدَّ من أن تعرف كيف تطرح الأسئلة التي هي بحاجة إلى تمييز جماعيّ بلغة مفهومه وبسيطه، وعليها أن تلمس حاجات الكنيسة وقضاياها الحاليَّة بشكل واضح وواقعيّ ومعقول. ويحتاج ذلك إلى تواضع حقيقيّ يسعى فيه للتمييز بين أمور هي خيره في حدّ ذاتها، وإلى حريَّة داخليَّة وعدم انحياز من قبل الشعب والإكليروس، ومشورة جماعيَّة حقيقيَّة في جوٍّ من الخشوع والصلاة حتى نسمح للربّ أن يقود هذه المسيرة ويرافقنا في خبرة التمييز هذه، وأن يطهّر ويثبّت اختياراتنا، لتسبيح اسمه القدّوس « تسبيحًا أعظم وخدمة إخوتنا البشر خدمة أوفر ».


وأخيرًا، إنَّ هذه المسيرة السنودسيَّة بحاجة ماسَّة إلى إعادة قراءة مستمرَّة، فمع إعادة القراءة نُعيد الخير لصاحب الخير ونكتشف آثار حضوره معنا، فكثيرًا ما، بسبب ضعفنا وانشغالنا بتفاهات العالم وشهواته، نكتشف أننا لم نكن حاضرين لحضور الرب بشكل لائق، ولم نكن أمناء لتعاليمه ووصاياه بالقدر الكافي، لذلك فالاهتداء والتوبة هما طريق للعودة والمصالحة ولإعادة إحياء الاختيارات الحقيقيَّة، التي تسلَّمناها من قبل الرب.

تابعوا قناتنا

https://www.youtube.com/allahmahabbaorg

شكراً لزيارة موقعنا وقراءة “المسيرة السنودسيَّة وخبرة التمييز الروحي”. ندعوك لمشاركة هذه المقالة مع أصدقائك ومتابعتنا على مواقع التواصل الإجتماعي على فيسبوك، انستغرام، يوتيوب وتويتر. نسأل الله أن يضع سلامه في قلبك أينما حللت ومهما فعلت وخاصّة في لحظات الخوف والألم والصعاب. ليباركك الربّ ويحفظك، ليضىء بوجهه عليك ويرحمك وليمنحكم السّلام!