تابعونا على صفحاتنا

مقالات

هل لِلإِيمانِ ميزانٌ وَمَقاس؟!

نَسَمع الرُّسُل يَتَوَسَّلونَ الرَّبَّ قائِلين: “زِدْنا إِيمانًا”. فَهَل الإِيمانُ هوَ شَيءٌ يُضافُ وَيُزاد، وَيُمكِنُنا أَن نَقيسَهُ على أَساس أَنَّهُ كَمِّيّة مُعَيَّنَة؟ هَل يَقِف الإِيمان عِندَ الإِعتِقاد بِوجودِ خالِقٍ نُطلِق عَلَيهِ صِفَة الله، أَيْ الإِلَه الحَقيقيّ وَلا أَحَدَ سِواه؟ هَلْ الإِيمان يَطال كُلّ المـُعتَقَدات وَالنَّظَرِيَّات أَمْ أَنَّهُ يَعني بِصورَةٍ مُباشَرَة البُعد الرُّوحيّ، وَالدّينيّ وَالنَّظرَة إِلى البُعد الماوَرائيّ؟
في عالَمِنا المـُعاصِر أَصبَحَ السُؤال عن الإِيمان مَوضوعًا يُبحَث في ماهِيَّتِهِ، لِأَنَّهُ مِنْ جِهَةٍ يَطال المـُعتَقَد الَّذي يُفَسِّرُهُ مَثَلًا قانون الإِيمان الَّذي تُعلِنُهُ الكَنيسَة كَمُلَخَّصٍ لِعَقيدَتِها، أَو أَنَّهُ مُجَرَّدَ حَدْثٍ وَاستِنباضٍ داخِلي يَنطَلِقْ مِنْ شُعورٍ مُمَيَّز عِندَ الإِنسان وَيَسعى إِلى تَفسيرِهِ مِن خِلالِ الأَفكار وَالكَلِمات وَالصُور، وصولًا إِلى الطُقوس وَالتَصَرُّفاتِ الَّتي تُصبِح بِمَثابَة العادَة وَالتَقليد الرُّوحيّ وَالأَخلاقيّ؟. إِذا نَظَرَنا إِلى مُجتَمَعات العالَم الغَربيّ، نَفْهَم ما المـَقصودُ هُنا. تَوَصَّل البَعض لِيَقولَ عَنْ ذاتِهِ أَنَّهُ يُؤمِنْ عَلى أَنَّهُ حَيوانٌ إِمَّا كَلبًا أَو هِرًّا، إِلَخ… إِنطِلاقًا مِنْ حَدثِهِ وَشُعورِهِ وَتَصَوُّرِهِ عَنْ ذاتِهِ، وَأَصبَحَ هذا الأَمر بِمَثابَةِ أَمر خاص وَمُقَدَّس لا يُسمَح لِأَحَدْ أن يُجَرِّمَ هذا النَّوع مِنَ التَّفكير وَلا حَتَّى أَن يَخضَع للتَّحليل الَّنفسيّ أَو الإِجتِماعي. فَهَل نَستَطيع أَن نَربُطَ الإِيمان بِهَكَذا تَصَرُّفات؟ بِالطَّبعِ لا.
عِندَما طَلَبَ الرُّسُلُ مِنَ الرَّبِّ أَن يَزدادوا إِيمانًا، إِنطَلَقوا مِنْ خِبرَةٍ وَمَعرِفَةٍ لَهُ، أَرادوها أَن تَنمو وَتَكبُرَ فيهِم. مِنْ هُنا الإِيمانُ هوَ نِعْمَةٌ وَعَطِيَّةٌ تَكشِفُ لَنا عَنْ حُضورِ اللهِ في حَياتِنا الشَّخصِيَّة وَنَتَأَكَّدُ مِنْها عَلى مُستَوى الأَحداث الخلاصيّة في التَّاريخ وَعَلى مُستَوى الجَماعَة المـُؤمِنَة، فَتُصبِح شَهادَتُها فاعِلَة، وَأَكثَر مِنْ ذَلِكَ يُصبِح هذا الإِختِبار الإِيمانيّ بِحدِّ ذاتِهِ هوَ المـِقياس للتَّمييز الرُّوحيّ. مِنْ هُنا نَفَهم أَهَمِّيَّة العَودَة إِلى خِبرَة وَشَهادَة الآباء والأَنبِياء وَرِجال الله في الكِتاب المـُقَدَّس، وَأَيضًا إِلى خِبرَة وَشَهادَة الآباء والمـُعَلِّمين وَالقِدّيسين وَالقِدّيسات في تاريخِ الكَنيسَة وَيُصبِح إِختِبارَهُم الإِيمانيّ المـُشتَرَك وَإِن تَنَوَّعَت واختَلَفَت تَعابير تَعبيرِهِم عَنْهُ مُختَلِفَة، هوَ عُنصُر التَّمييز الرُّوحيّ وَالمِقياس لِإِختِبارِنا الإِيمانيّ.
إِذًا، الإِيمانُ لَيسَ بِشَيءٍ يُضاف كَفِكرَةٍ أَو عِلْمٍ أَو دِراسَة، إِنَّهُ قَبلَ كُلِّ شَيءٍ هوَ نِعمَةٌ إِلَهِيَّة أَسْماها التَّعليمُ المـَسيحيّ فَضيلَةً إِلَهِيَّة إِلى جانِب فَضيلَتَيْ الرَّجاء وَالمـحَبَّة. نِعمَةُ الإِيمانِ هَذِهِ مَنوطَةٌ وَمُتَّصِلَةٌ بِتَدَخُّلِ اللهِ في قَلبِ تاريخِنا وَعَلى مُستَوى إِمكانِيَّاتِ إِنسانِيَّتِنا المـَحدودة بالإِحساسِ وَالإِدراك. نَقولُ هذا لِنُمَيِّزَ ما بَين عِلم اللَّاهوت وَالَّذي يُعنى بِتَفسير الإِيمان مِنْ مَبدأ وجودِهِ السابِق على اللَّاهوت. مَثَلًا عَلى ذَلِكَ يُمكِنُنا أَن نَتَعَلَّم دِراسَة عِلم اللَّاهوت وأَن لا أَكونَ مَسيحيًّا وَلا مُؤمِنًا إِلى حَدٍّ أَستَطيعُ أَن أَنقُلَ وَأُعَلِّمَ هذا العِلم، بِمَثابَة دِراسَة دينيَّة. بَينَما الإِيمانُ الَّذي عَلَينا أَن نَطلُبَهُ مِثلَ الرُّسُل يَنطَلِق مِنْ مبدَأ التَّعَمُّق وَالولوج في عَلاقَةٍ حَقيقيَّة مَعَ الرَّبّ، تَجعَلُ أَفكارَنا مُستَنارَة وَأَعمالُنا وَتَصَرُّفاتُنا حَكيمَة وَمَليئَة بِالتَّواضُعِ وَالمـَحَبَّة.
عُرِفَ الفَيلَسوف بليز بَاسكال بِمَقولَتِهِ الشَّهيرَة: “على اللَّاهوت أَن يُدَرّس سُجودًا”، وَمَعناه أَنَّهُ يُحَصَّل عَنْ طَريقِ الصّلاة وَالإِختِبار الرُّوحيّ الحَقيقيّ. مِنْ هُنا نَفهَمْ أَيضًا وَصِيَّة القِدّيس فَرَنسيس للقِدّيس أَنطونيوس البادوانيّ، عِندما كانَ يُدَرِّس الإِخوَة اللَّاهوت، أَنَّ عَلَيهِ أَلَّا يُطفِئَ فيهِم روحَ الصّلاةِ وَالتَّقوى. يَرى البَعضُ اليَومَ في رِجال الدّين وَمُعَلِّمي اللَّاهوت فُتورًا عَلى مُستَوى الإِيمان وَالصّلاةِ وَالتَّقوى، وَيَرى فيهِم أَنَّهُم يَسعَونَ لِوَضع الإِيمان في خِدمَةِ العَقلِ، بَدَلًا مِنْ أَن يَكونَ العَقل في خِدمَةِ الإِيمان. هذا الأَمر فيهِ شَيء مِنَ الحَقيقَة الواقِعِيَّة. عِندَما نَعودُ إِلى تَعاليمِ القِدّيس أُغوسطينوس في مَوضوع الإِيمان، نَراهُ يَتَكَلَّم عَنْ طَريقان، وَهُما: أُؤمِن لِأَفهَم، وَأَفهَمْ لِأُؤمِن. كِلاهُما يَنطَلِقانْ مِنْ حَقيقَة تَجَسُّد الحُضور الإِلَهيّ وَعَمَلِهِ الخَلاصيّ في قَلبِ التاريخ. مِنْ جِهَةٍ أَستَطيعُ أَن أُؤمِن بِهَذِهِ الأَحداث وَأَسعى إِلى فَهمِها أَكثَر فَأَكثَر، وَمِنْ جِهَةٍ أُخرى أَستَطيعُ أَن أَبدَأ بِفَهْمِ حَقيقَة الأَحداث الخَلاصِيَّة لِأَبلُغَ إِلى الإِيمان. يُختَصَرانِ هذان الطّريقان بِخِبرَتَي المـَجوس الَّذي فَهِموا فَآمَنوا، وَالرُّعاة الَّذينَ آمَنَوا فَفَهِموا.
نَصِل أخيرًا إِلى النُّقطَة المـَركَزِيَّة وهيَ حَقيقَة حُضور الله في قَلبِ وَأَحداثِ التَّاريخ الَّتي وُثِّقَت في الكِتابِ المـُقَدَّس، وَالَّتي اختَبَرتها وَشَهِدَتْ لَها الكَنيسَة بِقِدّيسيها عَلى مدى العُصورِ وَالأَزمِنَة. المـَطلوب هوَ أَن نَدخُلَ اليَوم في خِبرَةِ الإِيمانِ لِكَي نَعرِفَ حُضورَ الرَّبِّ فينا وفي حَياتِنا. مِنْ هُنا نَفْهَم جَوابَهُ عَلى الرُّسُل: “إذا كان لَكُم إِيمانٌ بِمِقدارِ حَبَّةِ خَردَلٍ، قُلتُم لِهَذِهِ التُّوتَة: انقَلِعي وانغَرِسي في البَحر، فَأَطاعَتْكُم”. فالقَليلُ القليل المـُرَمَّز لَهُ بِحَبَّةِ الخَردَل، لِكَونِهِ مِنْ عِندِ الرَّبّ هوَ كَثيرٌ وَكافٍ، وَبالتَّالي لَيسَ الإِيمانُ بِكَمِّيَّة، إِنَّما هُوَ عَطيَّةٌ فَعَّالَة وَمُثمِرَة عَلَينا أَن نَتَجاوَبَ وَنَتَفاعَلَ مَعَها، لِتَنمو فينا، فَكما تُصبِح حَبَّةُ الخَردَلِ شَجَرَةً تَجمَعُ في أَغصانِها طُيور السَّماء، كَذَلِكَ نَحنُ يَزدادُ فينا الإِختِبار الرُّوحيّ للرَّبّ، فَتُثْمِرَ حَياتَنا قَداسَةً وَمَحَبَّةً، وَنُصبِحَ في حالَةٍ مِنْ الطَّواعِيَّة التامَّة لِمشيئَةِ اللهِ بِحَيثُ نُصبِح جِزءًا حَيًّا وَفاعِلًا مِنْ حُضورِهِ في التاريخ، كما نرى وَنَشهَد في حَياةِ القدّيسين. آمين.

تابعوا قناتنا

https://www.youtube.com/AllahMahabbaorg

شكراً لزيارة موقعنا. ندعوك لمشاركة هذه المقالة مع أصدقائك ومتابعة “الله محبّة” على مواقع التواصل الإجتماعي على فيسبوك وانستغرام ويوتيوب وتويتر. نسأل الله أن يضع سلامه في قلبك أينما حللت ومهما فعلت وخاصّة في لحظات الخوف والألم والصعاب. ليباركك الربّ ويحفظك، ليضئ بوجهه عليك ويرحمك وليمنحك السّلام!